الوطن الأم يحمل على “كارو”

إن تاريخ الحروب والصراعات في العالم حافل بالقصص المأساوية والكارثية التي يمكن تجسيدها في لقطة أو صورة واحدة تحل محل الكثير من الكلام والحبر المسكوب وتلخص النتائج المدمرة للحروب والصراعات.

أودت الحرب العالمية الثانية بحياة الملايين من المدنيين في مختلف الدول الأوروبية، التي كانت مسرحاً للأحداث الرئيسية للحرب ثم انتقلت إلى أفريقيا وآسيا، إلا أنه شوهد ضحايا القنبلة النووية التي أسقطها الأمريكيون. فالطائرات في مدينتي ناجازاكي وهيروشيما اليابانيتين تجسد قمة القبح، فالأمر لا يحتاج إلى مزيد من الأدلة والبراهين على فظاعة الحرب.

عندما ظهرت العلامات الأولى لتغير المناخ السلبي في الثمانينيات من خلال موجة الجفاف والتصحر التي ضربت مناطق مختلفة من أفريقيا، نشطت منظمات الإغاثة الإنسانية في جمع التبرعات والمساعدات من مختلف البلدان حول العالم. ومن بين آلاف الصور للمأساة، اختارت إحدى المنظمات الدولية صورة لفتاة إثيوبية نحيلة، فسألتها: “عاملة الإغاثة: ماذا تريدين أن تصبحي عندما تكبرين؟”، فأجابت الطفلة الصغيرة: “إلى كن على قيد الحياة … على قيد الحياة. والتقطت المنظمات صورة للطفل وملخصاً للحديث وحولته إلى ملصق تجول حول العالم، أثار مشاعر الملايين وجذب تبرعات بملايين الدولارات.

خلال حرب فيتنام، كانت هناك حركة مقاومة شرسة داخل أمريكا رفضت المشاركة في الحرب، وتعرض المعارضون لهجوم مضاد من اليمين الأمريكي الأبيض، واتهمهم بأنهم شيوعيون وخونة وعملاء لا يريدون القيم. انتشار الديمقراطية الأمريكية في العالم. التقط مصور أمريكي محترف لقطة لفتاة فيتنامية وهي تركض عارية تماما في قرية هاجمها الأمريكيون بقنابل النابالم المحرمة دوليا. أصيب ببعض الحروق وبدت على وجهه علامات الذعر والخوف التي لم تتحملها مشاعر الملايين داخل أمريكا وخارجها. ويرى بعض خبراء الإعلام أن هذه الصورة، إلى جانب عوامل أخرى، لعبت بالتأكيد دورا كبيرا في تغيير الرأي العالمي والأمريكي ومعارضة الأغلبية لحرب فيتنام وأدت إلى انسحاب القوات الأمريكية.

خلقت الحرب الحالية في السودان أوضاعا مأساوية في كل مكان، في العاصمة الخرطوم المركز الرئيسي للحدث، وفي ولايتي دارفور وكردفان حيث انتقل القتال، ثم في بقية مدن السودان التي امتلأت الخرطوم بالنازحين. الناس، وبعضهم ليس لديه مأوى. خلال الأشهر الخمسة الماضية، ظهرت عشرات الصور التي تجسد مأساة الحرب، لكن صورة واحدة هزت مشاعر الناس، ولخصت ما تفعله الحرب بهم. كانت صورة للشاعر والكاتب المسرحي السوداني الشهير هاشم صديق، وهو يُنقل على عربة يجرها حصان من مقر إقامته في حي بانتي بأم درمان، الذي أصبح مسرحاً للقتال، إلى منطقة شمال أم درمان الثورية.

وقال مقربون له إنهم قرروا قبل أيام نقله إلى منطقة آمنة بسبب حالته الصحية التي تتطلب نوعاً من الأدوية التي يصعب الحصول عليها في الحي الذي يعيش فيه، ولكن لأيام وبسبب اشتدادها. معارك في المنطقة، لم أتمكن من العثور على سيارة وحتى “التوكتوك” يخاطر بالمرور في هذه المنطقة وأتمنى ألا يسأل أحد. فلبسها وسار بهم في شوارع أم درمان حتى وصل إلى مقصده.

هاشم صديق شاعر وكاتب وكاتب مسرحي سوداني مشهور. وكتب كلمات الأغنية الوطنية السودانية الشهيرة “ملحمة” التي تحتفل بثورة أكتوبر الشعبية التي أطاحت بالنظام العسكري الأول في أكتوبر 1964. كتب هاشم صديق هذه القصيدة عندما كان طالباً في المدرسة الثانوية وأبدعها موسيقي وفنان. وشارك في غنائها آنذاك السوداني محمد الأمين وعدد من الأصوات الشابة. منذ أكثر من 50 عامًا، كان أول نشيد وطني يوازي النشيد الوطني. كما كتب العديد من الأغاني المشهورة التي غناها له كبار المطربين السودانيين منهم محمد الأمين، سيد خليفة، أبوعركي البخيت، صلاح بن البادية ونانسي عجاج. وكان من رواد مدرسة الواقعية الاشتراكية في ذلك الوقت، ومزجت أغانيه بين الحب والوطن.

وفي مجال المسرح والمسلسلات الإذاعية، في السبعينيات، قام هاشم صديق بالإضافة إلى العديد من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية بتأليف مسرحية شعرية تعتبر من رواد المسرح السوداني وهي مسرحية “نباتي الحبيب” “. ويحفظ الشباب والطلبة العديد من قصائده الشعرية الثورية التي تلهمهم بروح مقاومة الأنظمة العسكرية والشمولية، ويغنونها في الاحتفالات والمظاهرات.

عاش السودانيون مآسي هذه الحرب وربما مر كل منهم بتجربة شخصية مؤلمة، لكن مشهد الشاعر الكبير هاشم صديق محمولا في عربة لخص بشاعة الحرب، وتسبب في ألم مضاعف وجرح للمشاعر. من بين الآلاف الذين كتبوا يعتذرون عن القيم والمثل الوطنية العظيمة التي أفسدتها الحرب ويرثون تراجع الإرث. إنسانية عظيمة في المجتمع السوداني، تتلخص في صورة الوطن المحمولة في السيارة.

ظهر المنشور في الأصل على aawsat.com

Leave A Reply

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More